الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآيات (32- 34): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما تم الجواب عن كفرهم بالموحي وما أوحاه إليه وما اشتد تعلقه به، عطف على ذلك تأسية بالموحى إليه- صلى الله عليه وسلم ـ، لأن الحاث على تميز الإجابة إلى الآيات المقترحات استهزاء الكفار، فقال: {ولقد استهزئ} أي من أدنى الخلق وغيرهم: {برسل}. ولما كان الإرسال لم يعم جميع الأزمان فضلًا عن الاستهزاء، أدخل الجار فقال: {من قبلك} لعدم إتيانهم بالمقترحات؛ والاستهزاء: طلب الهزوء، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار: {فأمليت} أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت: {للذين كفروا} أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها، أي يمد في المرعى، ولم أجعل ذلك سببًا لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن: {ثم} بعد طول الإملاء: {أخذتهم} أي أخذ قهر وانتقام: {فكيف} أي فكان أخذي لهم سببًا لأن يسأل من كان يستبطئ رسلنا أو يظن بنا تهاونًا بهم، فيقال له: كيف: {كان عقاب} فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير، وفي ضمنه وعيد شديد. فلما تقرر- بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات- أن ليس لأحد غيره أمر ما، وتحرر أن كل أحد في قبضته، تسبب عن ذلك أن يقال: {أفمن هو قائم} ولما كان القيام دالًا على الاستعلاء أوضحه بقوله: {على كل نفس} أي صالحة وغيرها: {بما كسبت}- يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما- كمن ليس كذلك، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلًا. ولما كان الجواب قطعًا: ليس كمثله شيء، كان كأنه قيل استعظامًا لهذا السؤال: من الذي توهم أن له مثلًا؟ فقيل: الذين كفروا به: {وجعلوا لله} أي الملك الأعظم: {شركاء} ويجوز أن يقدر لمن خبر معناه: لم يوحدوه، ويعطف عليه: {وجعلوا}، فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ فقيل: {قل سموهم} بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر، عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قل لهم: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده: {أم تنبئونه} أي تخبرونه إخبارًا عظيمًا: {بما لا يعلم} وعلمه محيط بكل شيء: {في الأرض} من كونها آلهة ببرهان قاطع. {أم بظاهر من القول} أي بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء، وهذا قريب مما مضى في قوله: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} [الرعد: 16] في أنه لو كان كذلك كان شبهه فيها ظهور ما، وهذه الأساليب منادية على الخلق بالعجز، وصادحة بأنه ليس من كلام الخلق. ولما كان التقدير: ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر، بنى عليه قوله: {بل زين} أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان: {للذين كفروا} أي لهم، وعبر بذلك تنبيهًا على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل: {مكرهم} أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقًا، وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقًا. ومادة مكر بأي ترتيب كان: مكر، ركم، رمك، كرم، كمر؛ تدور على التغطية والستر، فالمكر: الخديعة، قالوا: وهو الاحتيال بما لا يظهر، فإذا ظهر فذلك الكيد، ويلزم منه الاجتهاد في ضم أشتات الأمر لستر ما يراد، فمن الضم المكر الذي هو حسن خدالة الساق أي امتلائها، ويلزم منه خصب البدن ونعمته، وكان منه المكر- لضرب من النبات، والواحدة مكرة، سميت مكرة لارتوائها، أبو حنيفة: المكر من عشب القيظ، وهي عشبة غبراء ليس فيها ورق، وهو ينبت في السهل والرمل- كأنه شبه بالساق لخلوه من الورق أو لأنه لغبرته وتجرده كالمستور، والمكر: طين أحمر يشبه بالمغرة- كأنه سمي بذلك لما فيه من الكدرة، والمكرة من البسر: التي ليست برطبة ولكن فيها لين- كأنها سميت به لكون لونها حينئذ يأخذ في الكدرة؛ والركم: إلقاء الشيء بعضه على بعض فهو مركوم وركام، وتراكم الشيء- إذا تكاثف بعضه على بعض، وذلك مظنة الخفاء، والركمة: الطين المجموع وكذا التراب المجموع، وقال: وجُز عن مرتَكم الطريق- يريد المحجة، لأن ترابها تلبد فاشتد تلبده، والرمك والرمكة- بالضم- من ألوان الإبل وهو أكدر من الورقة وهو لون خالطت غبرته سوادًا، فهو أرمك- لأنه مظنة لخفاء ما فيه، ومنه اشتقاق الرامك، وهو أخلاط تخلط بالمسك فتجعل سكًّا، ورمك الرجل بالمقام- إذا أقام به، لأنه يستره بنفسه وأمتعته ويستتر هو فيه، وأرمكت غيري- إذا ألزمته مكانًا يقيم فيه، والرمكة: الأنثى من البراذين- فارسي معرب، لأنها تستر أصالة العربي إذا ولدته، ورمكان: موضع معروف- معرفة، ويقال: رمك الرجل- إذا هزل وذهب ما في يده فستر عنه أو صار هو مستورًا بعد أن كان بحسن حاله مشهورًا، ورمكت البازي والصقر ترميكًا- إذا أشرت إليه بالطير لأنك سلبت عنه الستر؛ واليرموك: مكان به لهب عظيم، يستر ما يكون فيه؛ والكريم: ضد اللئيم، وهو البخيل المهين النفس، والخسيس الآباء، فإذا كان شحيحًا ولم تجتمع له هذه الخصال قيل له: بخيل، ولم يُقل: لئيم، فالكريم إذن من ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها، وتكرّم- إذا تنزه عن الدناءة ورفع نفسه عنها، وأصل الكرم في اللغة: الفصل والرفعة، فإذا قالوا: فلان كريم، فإنما يريدون رفيعًا فاضلًا، فيلزم الكرم ستر العيوب، والله الكريم أي الفاضل الرفيع- كذا قال بعض أهل اللغة، وقيل: الصفوح عن الذنوب، وقيل: الذي لا يمن إذا أعطى، وإذا قالوا: فلان أكرم قومه، فإنما يريدون: أرفعهم منزلة وأفضلهم قدرًا، وكل هذا يلزم منه السخاء وستر الذنوب، ومن هذا قيل: فرس كريم، وشجرة كريمة- إذا كانت أرفع من نظائرها وأفضل،: {إني ألقي إليَّ كتاب كريم} [النحل: 29] أي رفيع شريف- كأنه أطلق هنا على ما فيه مجرد فضل تشبيهًا بالكريم في جزء المعنى، وكارمت الرجل: فعل كل منا في حق صاحبه مقتضى الكرم، والكرم: شجر العنب ولا يسمى به غيره، والكروم: قلائد تتخذها النساء كالمخانق، لدلالتها على قدر صاحبتها، والكرامة: طبق يوضع على رأس الحب- لأنه غطاءه، ولا يغطى إلا ما له فضل، ومنه يقولون: لك الحب والكرامة، والكرم: القصير من الرجال- كأنه شبه بطبق الحب؛ والكمرة- محركة: طرف قضيب الإنسان خاصة، سميت بذلك لسترها القلفة، ورجل مكمور- إذا قطع الخاتن كمرته، وتكامر الرجلان- إذا تكابرا بأيريهما، وقال في القاموس: وتكامرا: نظرا أيهما أعظم كمرة، والكمري: الرطب ما لم يرطب على شجره، بل سقط بسرًا فأرطب في الأرض- كأنه سمي بذلك لأنه يكون أكدر مما يرطب على الشجر، وهو أيضًا يشبه الكمرة في تكوينها، والكمري عن ابن دريد: الرجل القصير، كأنه شبه بالرطبة، وقال غيره: وهو اسم مكان. ولما ذكر تزيين مكرهم، أتبعه الدلالة عليه فقال: {وصدوا} أي فلزموا ما زين لهم، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم: {عن السبيل} الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم، بل العدم أحسن منه، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، ليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم: {ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلاله: {فما له من هاد} فكأنه قيل: فماذا لهم على ما فعلوا من ذلك؟ فقيل: {لهم} أي الذين كفروا: {عذاب} وهو الألم المستمر، ومنه العذب لأنه يستمر في الحلق: {في الحياة الدنيا} شاق، بممانعة حزب الله لهم في صدهم عن السبيل إلى ما يتصل بذلك من قتل وأسر، ولهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك عذاب: {ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد في المشقة، وهي غلظ الأمر على النفس بما يكاد يصدع القلب: {وما لهم من الله} أي الملك الأعظم: {من واق} أي مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءًا في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل الوقاية، وهي الحجر بما يدفع الأذية. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(33) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في الأرض أَم بظاهر مِّنَ القول بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصَدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (34) لَهُمْ عَذَابٌ في الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} اعلم أن القوم لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيرًا له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كما أن قومك يستهزئون بك: {فأمليت للذين كفروا} أي أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم. واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى، وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخًا لهم وتعجيبًا من عقولهم فقال: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} والمعنى: أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات وإذا كان كذلك كان عالمًا بجميع أحوال النفوس، وقادرًا على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات، وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي. وهذا هو المراد من قوله: {قائم على كل نفس بما كسبت} وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى: {قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18]. واعلم أنه لابد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه: الوجه الأول: التقدير: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} كمن ليس بهذه الصفة؟ وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ونظيره قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وما جاء جوابه لأنه مضمر في قوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} [الزمر: 22] فكذا ههنا، قال صاحب الكشاف: يجوز أن يقدر ما يقع خبرًا للمبتدأ، أو يعطف عليه قوله: {وجعلوا} والتقدير: أفمن هو بهذا الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء. الوجه الثاني: وهو الذي ذكره السيد صاحب حل العقد فقال: نجعل الواو في قوله: {وجعلوا} واو الحال ونضمر للمبتدأ خبرًا يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال، والتقدير: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} موجود. والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله: {لله} مقام المضمر تقريرًا للإلهية وتصريحًا بها، وهذا كما تقول: جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي. واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: {قل سموهم} وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت.
|